الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **
*2*كِتَاب الْأَحْكَامِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الشرح: قوله (بسم الله الرحمن الرحيم - كتاب الأحكام) كذا للجميع، وسقط لفظ " باب " بعده لغير أبي ذر والأحكام جمع حكم، والمراد بيان آدابه وشروطه، وكذا الحاكم ويتناول لفظ الحاكم الخليفة والقاضي، فذكر ما يتعلق بكل منهما. والحكم الشرعي عند الأصوليين خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير ومادة الحكم من الإحكام وهو الإتقان للشيء ومنعه من العيب. *3* الشرح: قوله (باب قول الله تعالى: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) في هذا إشارة من المصنف إلى ترجيح القول الصائر إلى أن الآية نزلت في طاعة الأمراء، خلافا لمن قال نزلت في العلماء، وقد رجح ذلك أيضا الطبري، وتقدم في تفسيرها في سورة النساء بسط القول في ذلك. وقال ابن عيينة: سألت زيد بن أسلم عنها ولم يكن بالمدينة أحد يفسر القرآن بعد محمد بن كعب مثله فقال: اقرأ ما قبلها تعرف، فقرأت أو المعنى أطيعوا الله فيما يأمركم به من الوحي المتعبد بتلاوته، وأطيعوا الرسول فيما يأمركم به من الوحي الذي ليس بقرآن. ومن بديع الجواب قول بعض التابعين لبعض الأمراء من بني أمية لما قال له: أليس الله أمركم أن تطيعونا في قوله ثم بين ذلك بقوله وذكر فيه حديثين: الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ عَنْ يُونُسَ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَمَنْ أَطَاعَ أَمِيرِي فَقَدْ أَطَاعَنِي وَمَنْ عَصَى أَمِيرِي فَقَدْ عَصَانِي الشرح: قوله (عبد الله) هو ابن المبارك. ويونس هو ابن يزيد. قوله (من أطاعني فقد أطاع الله) هذه الجملة منتزعة من قوله تعالى والطاعة هي الإتيان بالمأمور به والانتهاء عن المنهي عنه، والعصيان بخلافه. قوله (ومن أطاع أميري فقد أطاعني) في رواية همام والأعرج وغيرهما عند مسلم " ومن أطاع الأمير " ويمكن رد اللفظين لمعنى واحد، فإن كل من يأمر بحق وكان عادلا فهو أمير الشارع لأنه تولى بأمره وبشريعته، ويؤيده توحيد الجواب في الأمرين وهو قوله " فقد أطاعني " أي عمل بما شرعته، وكأن الحكمة في تخصيص أميره بالذكر أنه المراد وقت الخطاب، ولأنه سبب ورود الحديث. وأما الحكم فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. ووقع في رواية همام أيضا " ومن يطع الأمير فقد أطاعني " بصيغة المضارعة، وكذا " ومن يعص الأمير فقد عصاني " وهو أدخل في إرادة تعميم من خوطب ومن جاء من بعد ذلك. قال ابن التين: قيل كانت قريش ومن يليها من العرب لا يعرفون الإمارة فكانوا يمتنعون على الأمراء، فقال هذا القول يحثهم على طاعة من يؤمرهم عليهم والانقياد لهم إذا بعثهم في السرايا وإذا ولاهم البلاد فلا يخرجوا عليهم لئلا تفترق الكلمة. قلت: هي عبارة الشافعي في " الأم " ذكره في سبب نزولها، وعجبت لبعض شيوخنا الشراح من الشافعية كيف قنع بنسبة هذا الكلام إلى ابن التين معبرا عنه بصيغة " قيل " وابن التين إنما أخذه من كلام الخطابي، ووقع عند أحمد وأبي يعلى والطبراني من حديث ابن عمر " قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه فقال: ألستم تعلمون أن من أطاعني فقد أطاع الله وإن من طاعة الله طاعتي قالوا: بلى نشهد، قال فإن من طاعتي أن تطيعوا أمراءكم " وفي لفظ " أئمتكم". وفي الحديث وجوب طاعة ولاة الأمور وهي مقيدة بغير الأمر بالمعصية كما تقدم في أوائل الفتن، والحكمة في الأمر بطاعتهم المحافظة على اتفاق الكلمة لما في الافتراق من الفساد. الحديث: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَلَا كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ فَالْإِمَامُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى أَهْلِ بَيْتِ زَوْجِهَا وَوَلَدِهِ وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ وَعَبْدُ الرَّجُلِ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُ أَلَا فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ الشرح: قوله (حدثنا إسماعيل) هو ابن أبي أويس. قوله (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم) كذا وقع هنا وكذا في العتق من طريق يحيى القطان عن عبيد الله ابن عمر عن نافع عن ابن عمر كذلك، ووقع عند الطبراني من طريق محمد بن إبراهيم بن دينار عن عبيد الله ابن عمر بهذا فقال عن ابن عمر أن أبا لبابة بن عبد المنذر أخبره فذكر حديث النهي عن قتل الجنان التي في البيوت وقال " كلكم راع " الحديث، هكذا أورده في مسند أبي لبابة، ولكن تقدم في العتق أيضا من رواية سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم " فذكر حديث الباب، فدل على أن قوله " وقال " معطوف على ابن عمر لا على أبي لبابة، وثبت أنه من مسند ابن عمر لا من مرسله. قوله (ألا كلكم راع) كذا فيه، و " ألا " بتخفيف اللام حرف افتتاح، وسقطت من رواية نافع وسالم عن ابن عمر، والراعي هو الحافظ المؤتمن الملتزم صلاح ما اؤتمن على حفظه فهو مطلوب بالعدل فيه والقيام بمصالحه. قوله (فالإمام الذي على الناس) أي الإمام الأعظم، ووقع في رواية عبيد الله بن عمر الماضية في العتق " فالأمير " بدل الإمام " وكذا في رواية موسى بن عقبة في النكاح، ولم يقل " الذي على الناس". قوله (راع وهو مسئول عن رعيته) في رواية سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه الماضية في الجمعة " الإمام راع ومسئول عن رعيته " وكذا في الجميع بحذف " وهو " وهي مقدرة، وثبتت في الاستقراض. قوله (والرجل راع على أهل بيته) في رواية سالم " في أهل بيته". قوله (والمرأة راعية على أهل بيت زوجها وولده) في رواية عبيد الله بن عمر " على بيت بعلها " وفي رواية سالم " في بيت زوجها " ومثله لموسى لكن قال " علي". قوله (وعبد الرجل راع على مال سيده) في رواية سالم " والخادم راع في مال سيده " وفي رواية عبيد الله " والعبد " بدل الخادم، وزاد سالم في روايته " وحسبت أنه قال " وفي رواية الاستقراض " سمعت هؤلاء من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحسب النبي صلى الله عليه وسلم قال: والرجل راع في مال أبيه ومسئول عن رعيته " قال الخطابي: اشتركوا أي الإمام والرجل ومن ذكر في التسمية أي في الوصف بالراعي ومعانيهم مختلفة، فرعاية الإمام الأعظم حياطة الشريعة بإقامة الحدود والعدل في الحكم، ورعاية الرجل أهله سياسته لأمرهم وإيصالهم حقوقهم، ورعاية المرأة تدبير أمر البيت والأولاد والخدم والنصيحة للزوج في كل ذلك، ورعاية الخادم حفظ ما تحت يده والقيام بما يجب عليه من خدمته. قوله (ألا فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته) في رواية أيوب في النكاح مثله. وفي رواية سالم في الجمعة " وكلكم " وفي الاستقراض " فكلكم " ومثله في رواية نافع. قال الطيبي في هذا الحديث أن الراعي ليس مطلوبا لذاته وإنما أقيم لحفظ ما استرعاه المالك فينبغي أن لا يتصرف إلا بما أذن الشارع فيه وهو تمثيل ليس في الباب ألطف ولا أجمع ولا أبلغ منه، فإنه أجمل أولا ثم فصل وأتى بحرف التنبيه مكررا، قال والفاء في قوله " ألا فكلكم " جواب شرط محذوف، وختم ما يشبه الفذلكة إشارة إلى استيفاء التفصيل. وقال غيره دخل في هذا العموم المنفرد الذي لا زوج له ولا خادم ولا ولد فإنه يصدق عليه أنه راع على جوارحه حتى يعمل المأمورات ويجتنب المنهيات فعلا ونطقا واعتقادا فجوارحه وقواه وحواسه رعيته، ولا يلزم من الاتصاف بكونه راعيا أن لا يكون مرعيا باعتبار آخر. وجاء في حديث أنس مثل حديث ابن عمر فزاد في آخره " فأعدوا للمسألة جوابا، قالوا: وما جوابها؟ قال: أعمال البر " أخرجه ابن عدي والطبراني في " الأوسط " وسنده حسن، وله من حديث أبي هريرة " ما من راع إلا يسأل يوم القيامة أقام أمر الله أم أضاعه " ولابن عدي بسند صحيح عن أنس " إن الله سائل كل راع عما استرعاه حفظ ذلك أو ضيعه " واستدل به على أن المكلف يؤاخذ بالتقصير في أمر من هو في حكمه، وترجم له في النكاح " باب قوا أنفسكم وأهليكم نارا " وعلى أن للعبد أن يتصرف في مال سيده بإذنه وكذا المرأة والولد، وترجم لكراهة التطاول على الرقيق وتقدم توجيهه هناك وفي هذا الحديث بيان كذب الخبر الذي افتراه بعض المتعصبين لبني أمية قرأت في " كتاب القضاء " لأبي علي الكرابيسي أنبأنا الشافعي عن عمه هو محمد بن علي قال دخل ابن شهاب على الوليد بن عبد الملك فسأله عن حديث " إن الله إذا استرعى عبدا الخلافة كتب له الحسنات ولم يكتب له السيئات " فقال له: هذا كذب، ثم تلا (يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض - إلى قوله - بما نسوا يوم الحساب) فقال الوليد: إن الناس ليغروننا عن ديننا.
*3* الشرح: قوله (باب) بالتنوين (الأمراء من قريش) كذا للأكثر. وفي رواية نقلها عياض عن ابن أبي صفرة " الأمر بسكون الميم - أمر قريش " قال وهو تصحيف. قلت: ووقع في نسخة لأبي ذر عن الكشميهني مثل ما نقل عن ابن أبي صفرة والأول هو المعروف، ولفظ الترجمة لفظ حديث أخرجه يعقوب بن سفيان وأبو يعلى والطبراني من طريق سكين بن عبد العزيز حدثنا سيار بن سلامة أبو المنهال قال " دخلت مع أبي على أبي برزة الأسلمي " فذكر الحديث الذي أوله " إني أصبحت ساخطا على أحياء قريش " وفيه " أن ذاك الذي بالشام إن يقاتل إلا على الدنيا " وفي آخره " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الأمراء من قريش " الحديث، وقد تقدم التنبيه عليه في الفتن في " باب إذا قال عند قوم شيئا ثم خرج فقال بخلافه " وفي لفظ للطبراني " الأئمة " بدل " الأمراء " وله شاهد من حديث على رفعه " ألا إن الأمراء من قريش ما أقاموا ثلاثا " الحديث أخرجه الطبراني وأخرجه الطيالسي والبزار والمصنف في التاريخ من طريق سعد بن إبراهيم عن أنس بلفظ " الأئمة من قريش ما إذا حكموا فعدلوا " الحديث، وأخرجه النسائي والبخاري أيضا في التاريخ وأبو يعلى من طريق بكير الجزري عن أنس؛ وله طرق متعددة عن أنس منها للطبراني من رواية قتادة عن أنس بلفظ " إن الملك من قريش " الحديث. وأخرج أحمد هذا اللفظ مقتصرا عليه من حديث أبي هريرة، ومن حديث أبي بكر الصديق بلفظ " الأئمة من قريش " ورجاله رجال الصحيح، لكن في سنده انقطاع، وأخرجه الطبراني والحاكم من حديث علي بهذا اللفظ الأخير ولما لم يكن شيء منها على شرط المصنف في الصحيح اقتصر على الترجمة، وأورد الذي صح على شرطه مما يؤدي معناه في الجملة. وذكر فيه حديثين؛ الحديث: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ يُحَدِّثُ أَنَّهُ بَلَغَ مُعَاوِيَةَ وَهُوَ عِنْدَهُ فِي وَفْدٍ مِنْ قُرَيْشٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو يُحَدِّثُ أَنَّهُ سَيَكُونُ مَلِكٌ مِنْ قَحْطَانَ فَغَضِبَ فَقَامَ فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ قَالَ أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ رِجَالًا مِنْكُمْ يُحَدِّثُونَ أَحَادِيثَ لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا تُوثَرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُولَئِكَ جُهَّالُكُمْ فَإِيَّاكُمْ وَالْأَمَانِيَّ الَّتِي تُضِلُّ أَهْلَهَا فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ فِي قُرَيْشٍ لَا يُعَادِيهِمْ أَحَدٌ إِلَّا كَبَّهُ اللَّهُ فِي النَّارِ عَلَى وَجْهِهِ مَا أَقَامُوا الدِّينَ تَابَعَهُ نُعَيْمٌ عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرٍ الشرح: قوله (كان محمد بن جبير بن مطعم يحدث) قال صالح جزرة الحافظ: لم يقل أحد في روايته عن الزهري عن محمد بن جبير، إلا ما وقع في رواية نعيم بن حماد عن عبد الله بن المبارك " يعني التي ذكرها البخاري عقب هذا " قال صالح: ولا أصل له من حديث ابن المبارك، وكانت عادة الزهري إذا لم يسمع الحديث يقول: كان فلان يحدث وتعقبه البيهقي بما أخرجه من طريق يعقوب بن سفيان عن حجاج بن أبي منيع الرصافي عن جده عن الزهري عن محمد بن جبير بن مطعم، وأخرجه الحسن بن رشيق في فوائده من طريق عبد الله بن وهب عن ابن لهيعة عن عقيل عن الزهري عن محمد بن جبير. قوله (أنه بلغ معاوية) لم أقف على اسم الذي بلغه ذلك. قوله (وهم عنده) أي محمد بن جبير ومن كان وفد معه على معاوية بالشام حينئذ، وكأن ذلك كان لما بويع بالخلافة عندما سلم له الحسن بن علي، فأرسل أهل المدينة جماعة منهم إليه ليبايعوه. قوله (في وفد من قريش) لم أقف على أسمائهم؛ قال ابن التين: وفد فلان على الأمير أي ورد رسولا، والوفد بالسكون جمع وافد كصحب وصاحب. قلت: ورويناه في " فوائد أبي يعلى الموصلي " قال: حدثنا يحيى بن معين حدثنا أبو اليمان عن شعيب فقال فيه عن محمد بن جبير أيضا، وكذا هو في مسند الشاميين للطبراني من رواية بشر بن شعيب عن أبيه. قوله (أن عبد الله بن عمرو) أي ابن العاص. قوله (أنه يكون ملك من قحطان) لم أقف على لفظ حديث عبد الله بن عمرو بن العاص في ذلك وهل هو مرفوع أو موقوف، وقد مضى في الفتن قريبا من حديث أبي هريرة مرفوعا " لا تقوم الساعة حتى يخرج رجل من قحطان يسوق الناس بعصاه " أورده في باب " تغيير الزمان حتى تعبد الأوثان " وفي ذلك إشارة إلى أن ملك القحطاني يقع في آخر الزمان عند قبض أهل الإيمان ورجوع كثير ممن يبقى بعدهم إلى عباده الأوثان وهم المعبر عنهم بشرار الناس الذين تقوم عليهم الساعة كما تقدم تقريره هناك، وذكرت له هناك شاهدا من حديث ابن عمر، فإن كان حديث عبد الله بن عمرو مرفوعا موافقا لحديث أبي هريرة فلا معنى لإنكاره أصلا، وإن كان لم يرفعه وكان فيه قدر زائد يشعر بأن خروج القحطاني يكون في أوائل الإسلام فمعاوية معذور في إنكار ذلك عليه، وقد ذكرت نبذة من أخبار القحطاني في شرح حديث أبي هريرة في الفتن. وقال ابن بطال: سبب إنكار معاوية أنه حمل حديث عبد الله بن عمرو على ظاهره، وقد يكون معناه أن قحطانيا يخرج في ناحية من النواحي فلا يعارض حديث معاوية، والمراد بالأمر في حديث معاوية الخلافة كذا قال، ونقل عن المهلب أنه يجوز أن يكون ملك يغلب على الناس من غير أن يكون خليفة، وإنما أنكر معاوية خشية أن يظن أحد أن الخلافة تجوز في غير قريش، فلما خطب بذلك دل على أن الحكم عندهم كذلك إذ لم ينقل أن أحدا منهم أنكر عليه. قلت: ولا يلزم من عدم إنكارهم صحة إنكار معاوية ما ذكره عبد الله بن عمرو، فقد قال ابن التين الذي أنكره معاوية في حديثه ما يقويه لقوله " ما أقاموا الدين " فربما كان فيهم من لا يقيمه فيتسلط القحطاني عليه وهو كلام مستقيم. قوله (فإنه بلغني أن رجالا منكم يحدثون أحاديث ليست في كتاب الله ولا تؤثر) أي تنقل (عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) في هذا الكلام أن معاوية كان يراعي خاطر عمرو بن العاص، فما آثر أن ينص على تسمية ولده بل نسب ذلك إلى رجال بطريق الإبهام، ومراده بذلك عبد الله بن عمرو ومن وقع منه التحديث بما يضاهي ذلك، وقوله "ليست في كتاب الله " أي القرآن، وهو كذلك فليس فيه تنصيص على أن شخصا بعينه أو بوصفه يتولى الملك في هذه الأمة المحمدية، وقوله "لا يؤثر " فيه تقوية، لأن عبد الله ابن عمرو لم يرفع الحديث المذكور إذ لو رفعه لم يتم نفي معاوية أن ذلك لا يؤثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولعل أبا هريرة لم يحدث بالحديث المذكور حينئذ فإنه كان يتوقى مثل ذلك كثيرا، وإنما يقع منه التحديث به في حالة دون حالة وحيث يأمن الإنكار عليه ويحتمل أن يكون مراد معاوية غير عبد الله بن عمرو فلا يكون ذلك نصا على أن عبد الله بن عمرو لم يرفعه. قوله (وأولئك جهالكم) أي الذين يتحدثون بأمور من أمور الغيب لا يستندون فيها إلى الكتاب ولا السنة. قوله (فإياكم والأماني) بالتشديد ويجوز التخفيف. قوله (التي تضل أهلها) بضم أول " تضل " من الرباعي و " أهلها " بالنصب على المفعولية. وروى بفتح أول تضل ورفع أهلها " والأماني " جمع أمنية راجع إلى التمني، وسيأتي تفسيره في آخر " كتاب الأحكام " ومناسبة ذكر ذلك تحذير من يسمع من القحطانيين من التمسك بالخبر المذكور فتحدثه نفسه أن يكون هو القحطاني، وقد تكون له قوة وعشيرة فيطمع في الملك ويستند إلى هذا الحديث فيضل لمخالفته الحكم الشرعي في أن الأئمة من قريش. قوله (فإني سمعت) لما أنكر وحذر أراد أن يبين مستنده في ذلك. قوله (إن هذا الأمر في قريش) قد ذكرت شواهد هذا المتن في الباب الذي قبله. قوله (لا يعاديهم أحد إلا كبه الله في النار على وجهه) أي لا ينازعهم أحد في الأمر إلا كان مقهورا في الدنيا معذبا في الآخرة. قوله (ما أقاموا الدين) أي مدة إقامتهم أمور الدين، قيل يحتمل أن يكون مفهومه فإذا لم يقيموه لا يسمع لهم، وقيل يحتمل أن لا يقام عليهم وإن كان لا يجوز إبقاؤهم على ذلك ذكرهما ابن التين، ثم قال " وقد أجمعوا أنه أي الخليفة إذا دعا إلى كفر أو بدعة أنه يقام عليه واختلفوا إذا غصب الأموال وسفك الدماء وانتهك هل يقام عليه أو لا " انتهى. وما ادعاه من الإجماع على القيام فيما إذا دعا الخليفة إلى البدعة مردود، إلا أن حمل على بدعة تؤدي إلى صريح الكفر، وإلا فقد دعا المأمون والمعتصم والواثق إلى بدعة القول بخلق القرآن وعاقبوا العلماء من أجلها بالقتل والضرب والحبس وأنواع الإهانة ولم يقل أحد بوجوب الخروج عليهم بسبب ذلك، ودام الأمر بضع عشرة سنة حتى ولي المتوكل الخلافة فأبطل المحنة وأمر بإظهار السنة؟ وما نقله من الاحتمال في قوله " ما أقاموا الدين " خلاف ما تدل عليه الأخبار الواردة في ذلك الدالة على العمل بمفهومه أو أنهم إذا لم يقيموا الدين يخرج الأمر عنهم. وقد ورد في حديث أبي بكر الصديق نظير ما وقع في حديث معاوية ذكره محمد بن إسحاق في " الكتاب الكبير " فذكر قصة سقيفة بني ساعدة وبيعة أبي بكر وفيها " فقال أبو بكر: وإن هذا الأمر في قريش ما أطاعوا الله واستقاموا على أمره " وقد جاءت الأحاديث التي أشرت إليها على ثلاثة أنحاء: الأول وعيدهم باللعن إذا لم يحافظوا على المأمور به كما في الأحاديث التي ذكرتها في الباب الذي قبله حيث قال " الأمراء من قريش ما فعلوا ثلاثا: ما حكموا فعدلوا " الحديث وفيه " فمن لم يفعل ذلك منهم فعليه لعنة الله " وليس في هذا ما يقتضي خروج الأمر عنهم. الثاني وعيدهم بأن يسلط عليهم من يبالغ في أذيتهم، فعند أحمد وأبي يعلى من حديث ابن مسعود رفعه " يا معشر قريش إنكم أهل هذا الأمر ما لم تحدثوا، فإذا غيرتم بعث الله عليكم من يلحاكم كما يلحى القضيب " ورجاله ثقات، إلا أنه من رواية عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن عم أبيه عبد الله بن مسعود ولم يدركه، هذه رواية صالح بن كيسان عن عبيد الله، وخالفه حبيب بن أبي ثابت فرواه عن القاسم بن محمد بن عبد الرحمن عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن أبي مسعود الأنصاري ولفظه " لا يزال هذا الأمر فيكم وأنتم ولاته " الحديث أخرجه أحمد وفي سماع عبيد الله من أبي مسعود نظر مبني على الخلاف في سنة وفاته وله شاهد من مرسل عطاء بن يسار أخرجه الشافعي والبيهقي من طريقه بسند صحيح إلى عطاء ولفظه " قال لقريش: أنتم أولى الناس بهذا الأمر ما كنتم على الحق، إلا أن تعدلوا عنه فتلحون كما تلحى هذه الجريدة " وليس في هذا أيضا تصريح بخروج الأمر عنه وإن كان فيه إشعار به. الثالث الإذن في القيام عليهم وقتالهم والإيذان بخروج الأمر عنهم كما أخرجه الطيالسي والطبراني من حديث ثوبان رفعه " استقيموا لقريش ما استقاموا لكم، فإن لم يستقيموا فضعوا سيوفكم على عواتقكم فأبيدوا خضراءهم، فإن لم تفعلوا فكونوا زراعين أشقياء " ورجاله ثقات، إلا أن فيه انقطاعا لأن راويه سالم بن أبي الجعد لم يسمع من ثوبان. وله شاهد في الطبراني من حديث النعمان بن بشير بمعناه. وأخرج أحمد من حديث ذي مخبر بكسر الميم وسكون المعجمة وفتح الموحدة بعدهما راء وهو ابن أخي النجاشي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " كان هذا الأمر في حمير فنزعه الله منهم وصيره في قريش وسيعود إليهم " وسنده جيد وهو شاهد قوي لحديث القحطاني، فإن حمير يرجع نسبها إلى قحطان، وبه يقوى أن مفهوم حديث معاوية ما أقاموا الدين أنهم إذا لم يقيموا الدين خرج الأمر عنهم، ويؤخذ من بقية الأحاديث أن خروجه عنهم إنما يقع بعد إيقاع ما هددوا به من اللعن أولا وهو الموجب للخذلان وفساد التدبير، وقد وقع ذلك في صدر الدولة العباسية، ثم التهديد بتسليط من يؤذيهم عليهم، ووجد ذلك في غلبة مواليهم بحيث صاروا معهم كالصبي المحجور عليه يقتنع بلذاته ويباشر الأمور غيره، ثم اشتد الخطب فغلب عليهم الديلم فضايقوهم في كل شيء حتى لم يبق للخليفة إلا الخطبة، واقتسم المتغلبون الممالك في جميع الأقاليم، ثم طرأ عليهم طائفة بعد طائفة حتى انتزع الأمر منهم في جميع الأقطار ولم يبق للخليفة إلا مجرد الاسم في بعض الأمصار. قوله (تابعه نعيم بن حماد عن ابن المبارك عن معمر عن الزهري عن محمد بن جبير) يعني عن معاوية به، وقد رويناه موصولا في معجم الطبراني الكبير والأوسط قال حدثنا بكر بن سهل حدثنا نعيم بن حماد فذكره مثل رواية شعيب، إلا أنه قال بعد قوله فغضب " فقال سمعت " ولم يذكر ما قبل قوله سمعت. وقال في روايته " كب على وجهه " بضم الكاف مبنيا لما لم يسم فاعله، قال الطبراني في الأوسط: لم يروه عن معمر إلا ابن المبارك تفرد به نعيم وكذا أخرجه الذهلي في " الزهريات " عن نعيم وقال " كبه الله". الحديث: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ قَالَ ابْنُ عُمَرَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَزَالُ هَذَا الْأَمْرُ فِي قُرَيْشٍ مَا بَقِيَ مِنْهُمْ اثْنَانِ الشرح: قوله (عاصم بن محمد) أي ابن زيد بن عبد الله بن عمر. قوله (قال ابن عمر) هو جد الراوي عنه. قوله (لا يزال هذا الأمر في قريش) أي الخلافة، يعني لا يزال الذي يليها قرشيا. قوله (ما بقي منهم اثنان) قال ابن هبيرة: يحتمل أن يكون على ظاهره وأنهم لا يبقى منهم في آخر الزمان إلا اثنان أمير ومؤمر عليه والناس لهم تبع. قلت: في رواية مسلم عن شيخ البخاري في هذا الحديث " ما بقي من الناس اثنان " وفي رواية الإسماعيلي " ما بقي في الناس اثنان وأشار بأصبعيه السبابة والوسطى " وليس المراد حقيقة العدد، وإنما المراد به انتفاء أن يكون الأمر في غير قريش ويحتمل أن يحمل المطلق على المقيد في الحديث الأول ويكون التقدير لا يزال هذا الأمر، أي لا يسمى بالخليفة إلا من يكون من قريش إلا أن يسمى به أحد من غيرهم غلبة وقهرا وإما أن يكون المراد بلفظ الأمر وإن كان لفظه لفظ الخبر ويحتمل أن يكون بقاء الأمر في قريش في بعض الأقطار دون بعض، فإن بالبلاد اليمنية وهي النجود منها طائفة من ذرية الحسن بن علي لم تزل مملكة تلك البلاد معهم من أواخر المائة الثالثة، وأما من بالحجاز من ذرية الحسن بن علي وهم أمراء مكة وأمراء ينبع ومن ذرية الحسين بن علي وهم أمراء المدينة فإنهم وإن كانوا من صميم قريش لكنهم تحت حكم غيرهم من ملوك الديار المصرية، فبقى الأمر في قريش بقطر من الأقطار في الجملة، وكبير أولئك أي أهل اليمن يقال له الإمام، ولا يتولى الإمامة فيهم إلا من يكون عالما متحريا للعدل. وقال الكرماني: لم يخل الزمان عن وجود خليفة من قريش إذ في المغرب خليفة منهم على ما قيل وكذا في مصر. قلت: الذي في مصر لا شك في كونه قرشيا لأنه من ذرية العباس، والذي في صعدة وغيرها من اليمن لا شك في كونه قرشيا لأنه من ذرية الحسين ابن علي، وأما الذي في المغرب فهو حفصي من ذرية أبي حفص صاحب ابن تومرت وقد انتسبوا إلى عمر بن الخطاب وهو قرشي. ولحديث ابن عمر شاهد من حديث ابن عباس أخرجه البزار بلفظ " لا يزال هذا الدين واصبا ما بقي من قريش عشرون رجلا " وقال النووي: حكم حديث ابن عمر مستمر إلى يوم القيامة ما بقي من الناس اثنان، وقد ظهر ما قاله صلى الله عليه وسلم فمن زمنه إلى الآن لم تزل الخلافة في قريش من غير مزاحمة لهم على ذلك، ومن تغلب على الملك بطريق الشركة لا ينكر أن الخلافة في قريش وإنما يدعي أن ذلك بطريق النيابة عنهم انتهى. وقد أورد عليه أن الخوارج في زمن بني أمية تسموا بالخلافة واحدا بعد واحد ولم يكونوا من قريش، وكذلك ادعى الخلافة بنو عبيد وخطب لهم بمصر والشام والحجاز ولبعضهم بالعراق أيضا وأزيل الخلافة ببغداد قدر سنة، وكانت مدة بني عبيد بمصر سوى ما تقدم لهم بالمغرب تزيد على مائتي سنة، وادعى الخلافة عبد المؤمن صاحب ابن تومرت وليس بقرشي وكذلك كل من جاء بعده بالمغرب إلى اليوم، والجواب عنه أما عن بني عبيد فإنهم كانوا يقولون إنهم من ذرية الحسين بن علي ولم يبايعوه إلا على هذا الوصف، والذين أثبتوا نسبتهم ليسوا بدون من نفاه، وأما سائر من ذكر ومن لم يذكر فهم من المتغلبين وحكمهم حكم البغاة فلا عبرة بهم وقال القرطبي: هذا الحديث خبر عن المشروعية أي لا تنعقد الإمامة الكبرى إلا لقرشي مهما وجد منهم أحد، وكأنه جنح إلى أنه خبر بمعنى الأمر، وقد ورد الأمر بذلك في حديث جبير بن مطم رفعه " قدموا قريشا ولا تقدموها " أخرجه البيهقي، وعند الطبراني من حديث عبد الله بن حنطب ومن حديث عبد الله بن السائب مثله، وفي نسخة أبي اليمان عن شعيب عن أبي هريرة عن أبي، بكر بن سليمان بن أبي حثمة مرسلا أنه بلغه مثله، وأخرجه الشافعي من وجه آخر عن ابن شهاب أنه بلغه مثله، وفي الباب حديث أبي هريرة رفعه " الناس تبع لقريش في هذا الشأن " أخرجاه في الصحيحين من رواية المغيرة بن عبد الرحمن، ومسلم أيضا من رواية سفيان بن عيينة كلاهما عن الأعرج عن أبي هريرة، وتقدم في مناقب قريش، وأخرجه مسلم أيضا من رواية همام عن أبي هريرة ولأحمد من رواية أبي سلمة عن أبي هريرة مثله لكن قال " في هذا الأمر " وشاهده عند مسلم عن جابر كالأول، وعند الطبراني من حديث سهل بن سعد، وعند أحمد وابن أبي شيبة من حديث معاوية، وعند البزار من حديث علي. وأخرج أحمد من طريق عبد الله بن أبي الهزيل قال " لما قدم معاوية الكوفة قال رجل من بكر بن وائل: لئن لم تنته قريش لنجعلن هذا الأمر في جمهور من جماهير العرب غيرهم، فقال عمرو بن العاص: كذبت، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قريش قادة الناس " قال ابن المنير: وجه الدلالة من الحديث ليس من جهة تخصيص قريش بالذكر فإنه يكون مفهوم لقب ولا حجة فيه عند المحققين، وإنما الحجة وقوع المبتدأ معرفا باللام الجنسية لأن المبتدأ بالحقيقة هاهنا هو الأمر الواقع صفة لهذا وهذا لا يوصف إلا بالجنس، فمقتضاه حصر جنس الأمر في قريش، فيصير كأنه قال: لا أمر إلا في قريش، وهو كقوله " الشفعة فيما لم يقسم " والحديث وإن كان بلفظ الخبر فهو بمعنى الأمر كأنه قال ائتموا بقريش خاصة، وبقية طرق الحديث تؤيد ذلك، ويؤخذ منه أن الصحابة اتفقوا على إفادة المفهوم للحصر خلافا لمن أنكر ذلك، وإلى هذا ذهب جمهور أهل العلم أن شرط الإمام أن يكون قرشيا، وقيد ذلك طوائف ببعض قريش فقالت طائفة لا يجوز إلا من ولد علي وهذا قول الشيعة ثم اختلفوا اختلافا شديدا في تعيين بعض ذرية علي. وقالت طائفة يختص بولد العباس وهو قول أبي مسلم الخراساني وأتباعه. ونقل ابن حزم أن طائفة قالت: لا يجوز إلا في ولد جعفر بن أبي طالب وقالت أخرى في ولد عبد المطلب، وعن بعضهم لا يجوز إلا في بني أمية، وعن بعضهم لا يجوز إلا في ولد عمر، قال ابن حزم ولا حجة لأحد من هؤلاء الفرق. وقالت الخوارج وطائفة من المعتزلة: يجوز أن يكون الإمام غير قرشي، وإنما يستحق الإمامة من قام بالكتاب والسنة سواء كان عربيا أم عجميا، وبالغ ضرار ابن عمرو فقال: تولية غير القرشي أولى لأنه يكون أقل عشيرة فإذا عصى كان أمكن لخلعه. وقال أبو بكر ابن الطيب: لم يعرج المسلمون على هذا القول بعد ثبوت حديث " الأئمة من قريش " وعمل المسلمون به قرنا بعد قرن وانعقد الإجماع على اعتبار ذلك قبل أن يقع الاختلاف. قلت: قد عمل بقول ضرار من قبل أن يوجد من قام بالخلافة من الخوارج على بني أمية كقطري بفتح القاف والطاء المهملة ودامت فتنتهم حتى أبادهم المهلب بن أبي صفرة أكثر من عشرين سنة، وكذا تسمى بأمير المؤمنين من غير الخوارج ممن قام على الحجاج كابن الأشعث، ثم تسمى بالخلافة من قام في قطر من الأقطار في وقت ما فتسمى بالخلافة وليس من قريش كبني عباد وغيرهم بالأندلس كعبد المؤمن وذريته ببلاد المغرب كلها، وهؤلاء ضاهوا الخوارج في هذا ولم يقولوا بأقوالهم ولا تمذهبوا بآرائهم بل كانوا من أهل السنة داعين إليها. وقال عياض: اشتراط كون الإمام قرشيا مذهب العلماء كافة وقد عدوها في مسائل الإجماع، ولم ينقل عن أحد من السلف فيها خلاف وكذلك من بعدهم في جميع الأمصار، قال: ولا اعتداد بقول الخوارج ومن وافقهم من المعتزلة لما فيه من مخالفة المسلمين. قلت: ويحتاج من نقل الإجماع إلى تأويل ما جاء عن عمر من ذلك، فقد أخرج أحمد عن عمر بسند رجاله ثقات أنه قال " إن أدركني أجلي وأبو عبيدة حي استخلفته " فذكر الحديث وفيه " فإن أدركني أجلي وقد مات أبو عبيدة استخلفت معاذ بن جبل " الحديث ومعاذ بن جبل أنصاري لا نسب له في قريش، فيحتمل أن يقال: لعل الإجماع انعقد بعد عمر على اشتراط أن يكون الخليفة قرشيا أو تغير اجتهاد عمر في ذلك والله أعلم، وأما ما احتج به من لم يعين الخلافة في قريش من تأمير عبد الله بن رواحة وزيد بن حارثة وأسامة وغيرهم في الحروب فليس من الإمامة العظمى في شيء، بل فيه أنه يجوز للخليفة استنابة غير القرشي في حياته والله أعلم واستدل بحديث ابن عمر على عدم وقوع ما فرضه الفقهاء من الشافعية وغيرهم أنه إذا لم يوجد قرشي يستخلف كناني فإن لم يوجد فمن بني إسماعيل فإن لم يوجد منهم أحد مستجمع الشرائط فعجمي وفي وجه جرهمي وإلا فمن ولد إسحاق، قالوا: وإنما فرض الفقهاء ذلك على عادتهم في ذكر ما يمكن أن يقع عقلا وإن كان لا يقع عادة أو شرعا. قلت والذي حمل قائل هذا القول عليه أنه فهم منه الخبر المحض وخبر الصادق لا يتخلف، وأما من حمله على الأمر فلا يحتاج إلى هذا التأويل، واستدل بقوله " قدموا قريشا ولا تقدموها " وبغيره من أحاديث الباب على رجحان مذهب الشافعي لورود الأمر بتقديم القرشي على من ليس قرشيا. قال عياض: ولا حجة فيها لأن المراد بالأئمة في هذه الأحاديث الخلفاء، وإلا فقد قدم النبي صلى الله عليه وسلم سالما مولى أبي حذيفة في إمامة الصلاة ووراءه جماعة من قريش، وقدم زيد بن حارثة وابنه أسامة ابن زيد ومعاذ بن جبل وعمرو بن العاص في التأمير في كثير من البعوث والسرايا ومعهم جماعة من قريش. وتعقبه النووي وغيره بأن في الأحاديث ما يدل على أن للقرشي مزية على غيره، فيصح الاستدلال به لترجيح الشافعي على غيره، وليس مراد المستدل به أن الفضل لا يكون إلا للقرشي بل المراد أن كونه قرشيا من أسباب الفضل والتقدم كما أن من أسباب الفضل والتقدم الورع والفقه والقراءة والسن وغيرها، فالمستويان في جميع الخصال إذا اختص أحدهما بخصلة منها دون صاحبه ترجح عليه فيصح الاستدلال على تقديم الشافعي على من ساواه في العلم والدين من غير قريش لأن الشافعي قرشي، وعجب قول القرطبي في " المفهم " بعد أن ذكر ما ذكره عياض: أن المستدل بهذه الأحاديث على ترجيح الشافعي صحبته غفلة قارنها من صميم التقليد طيشه، كذا قال ولعل الذي أصابته الغفلة من لم يفهم مراد المستدل والعلم عند الله تعالى. *3* لِقَوْلِهِ تَعَالَى وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ الشرح: قوله (باب أجر من قضى بالحكمة) سقط لفظ " أجر " من رواية أبي زيد المروزي، وعلى تقدير ثبوتها فليس في الباب ما يدل عليه فيمكن أن يؤخذ من لازم الإذن في تغبيط من قضى بالحكمة، فإنه يقتضي ثبوت الفضل فيه، وما ثبت فيه الفضل ترتب عليه الأجر والعلم عند الله. قوله (لقوله تعالى: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون) وجه الاستدلال بالآية لما ترجم به أن منطوق الحديث دل على أن من قضى بالحكمة كان محمودا حتى أنه لا حرج على من تمنى أن يكون له مثل الذي له من ذلك ليحصل له مثل ما يحصل له من الأجر وحسن الذكر، ومفهومه يدل على أن من لم يفعل ذلك فهو على العكس من فاعله، وقد صرحت الآية بأنه فاسق، واستدلال المصنف بها يدل على أنه يرجح قول من قال إنها عامة في أهل الكتاب وفي المسلمين، وحكى ابن التين عن الداودي أن البخاري اقتصر على هذه الآية دون ما قبلها عملا بقول من قال إن الآيتين قبلها نزلتا في اليهود والنصارى، وتعقبه ابن التين بأنه لا قائل بذلك، قال: ونسق الآية لا يقتضي ما قال، قلت: وما نفاه ثابت عن بعض التابعين في تفسير الطبري وغيره؛ ويظهر أن يقال إن الآيات وإن كان سببها أهل الكتاب لكن عمومها يتناول غيرهم، لكن لما تقرر من قواعد الشريعة أن مرتكب المعصية لا يسمى كافرا ولا يسمى أيضا ظالما لأن الظلم قد فسر بالشرك، بقيت الصفة الثالثة، فمن ثم اقتصر عليها. وقال إسماعيل القاضي في " أحكام القرآن " بعد أن حكى الخلاف في ذلك: ظاهر الآيات يدل على أن من فعل مثل ما فعلوا واخترع حكما يخالف به حكم الله وجعله دينا يعمل به فقد لزمه مثل ما لزمهم من الوعيد المذكور حاكما كان أو غيره. وقال ابن بطال: مفهوم الآية أن من حكم بما أنزل الله استحق جزيل الأجر، ودل الحديث على جواز منافسته فاقتضى أن ذلك من أشرف الأعمال وأجل ما يتقرب به إلى الله، ويؤيده حديث عبد الله بن أبي أوفي رفعه " الله مع القاضي ما لم يجر " الحديث أخرجه ابن المنذر. قلت: وأخرجه أيضا ابن ماجه والترمذي واستغربه، وصححه ابن حبان والحاكم. الحديث: حَدَّثَنَا شِهَابُ بْنُ عَبَّادٍ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ إِسْمَاعِيلَ عَنْ قَيْسٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ وَآخَرُ آتَاهُ اللَّهُ حِكْمَةً فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا الشرح: قوله (حدثنا شهاب بن عباد) هو ابن عمر العبدي، وإبراهيم بن حميد هو الرؤاسي بضم الراء وتخفيف الهمزة ثم مهملة، وإسماعيل هو ابن أبي خالد، وقيس هو ابن أبي حازم، وعبد الله هو ابن مسعود، والسند كله كوفيون. قوله (لا حسد إلا في اثنتين) رجل بالجر ويجوز الرفع على الاستئناف والنصب بإضمار أعني. قوله (على هلكته) بفتحات أي على إهلاكه أي إنفاقه (في الحق) قوله (وآخر آتاه الله حكمة) في رواية ابن عيينة عن إسماعيل بن أبي خالد الماضية في كتاب العلم " ورجل آتاه الله الحكمة " وقد مضى شرحه مستوفى هناك وأن المراد بالحكمة القرآن في حديث ابن عمر، أو أعم من ذلك، وضابطها ما منع الجهل وزجر عن القبح. قال ابن المنير: المراد بالحسد هنا الغبطة، وليس المراد بالنفي حقيقته وإلا لزم الخلف، لأن الناس حسدوا في غير هاتين الخصلتين وغبطوا من فيه سواهما فليس هو خبرا، وإنما المراد به الحكم ومعناه حصر المرتبة العليا من الغبطة في هاتين الخصلتين فكأنه قال هما آكد القربات التي يغبط بها، وليس المراد نفي أصل الغبطة مما سواهما فيكون من مجاز التخصيص، أي لا غبطة كاملة التأكيد لتأكيد أجر متعلقها إلا الغبطة بهاتين الخصلتين. وقال الكرماني: الخصلتان المذكورتان هنا غبطة لا حسد؛ لكن قد يطلق أحدهما على الآخر، أو المعنى لا حسد إلا فيهما، وما فيهما ليس بحسد فلا حسد فهو كما قيل في قوله تعالى وبسند آخر لين أن معاوية سأل أبا الدرداء وكان يقضي بدمشق، من لهذا الأمر بعدك، قال فضالة بن عبيد: وهؤلاء من أكابر الصحابة وفضلائهم. وإنما فر منه من فر خشية العجز عنه وعند عدم المعين عليه. وقد يتعارض أمر حيث يقع تولية من يشتد به الفساد إذا ا امتنع المصلح والله المستعان. وهذا حيث يكون هناك غيره، ومن ثم كان السلف يمتنعون منه ويفرون إذا طلبوا له. واختلفوا هل يستحب لمن استجمع شرائطه وقوى عليه أو لا؟ والثاني قول الأكثر لما فيه من الخطر والغرر، ولما ورد فيه من التشديد. وقال بعضهم: إن كان من أهل العلم وكان خاملا بحيث لا يحمل عنه العلم أو كان محتاجا وللقاضي رزق من جهة ليست بحرام استحب له ليرجع إليه في الحكم بالحق وينتفع بعلمه، وإن كان مشهورا فالأولى له الإقبال على العلم والفتوى، وأما إن لم يكن في البلد من يقوم مقامه فإنه يتعين عليه لكونه من فروض الكفاية لا يقدر على القيام به غيره فيتعين عليه. وعن أحمد: لا يأثم لأنه لا يجب عليه إذا أضر به نفع غيره ولا سيما من لا يمكنه عمل الحق لانتشار الظلم. *3* الشرح: قوله (باب السمع والطاعة لإمام ما لم تكن معصية) إنما قيده بالإمام وإن كان في أحاديث الباب الأمر بالطاعة لكل أمير ولو لم يكن إماما لأن محل الأمر بطاعة الأمير أن يكون مؤمرا من قبل الإمام. وذكر فيه الأربعة أحاديث: الحديث: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَإِنْ اسْتُعْمِلَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ الشرح: قوله (عن أبي التياح) بمثناه مفتوحة وتحتانية مشددة وآخره مهملة وهو يزيد بن حميد الضبعي، وتقدم في الصلاة من وجه آخر التصريح بقول شعبة " حدثني أبو التياح". قوله (اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل) بضم المثناة على البناء للمجهول أي جعل عاملا بأن أمر إمارة عامة على البلد مثلا أو ولى فيها ولاية خاصة كالإمامة في الصلاة أو جباية الخراج أو مباشرة الحرب، فقد كان في زمن الخلفاء الراشدين من يجتمع له الأمور الثلاثة ومن يختص ببعضها. قوله (حبشي) بفتح المهملة والموحدة بعدها معجمة منسوب إلى الحبشة، ومضى في الصلاة في " باب إمامة العبد " عن محمد بن بشار عن يحيى القطان بلفظ " اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل حبشي " وفيه بعد باب من رواية غندر عن شعبة بلفظ، قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر " اسمع وأطع ولو لحبشي " وقد أخرج مسلم من طريق غندر عن شعبة بإسناد آخر إلى أبي ذر أنه انتهى إلى الربذة فإذا عبد يؤمهم فذهب يتأخر لأجل أبي ذر فقال أبو ذر " أوصاني خليلي " فذكر نحوه. وظهرت بهذه الرواية الحكمة في تخصيص أبي ذر بالأمر في هذه الرواية، وقد جاء في حديث آخر الأمر بذلك عموما؛ ولمسلم أيضا من حديث أم الحصين " اسمعوا وأطيعوا ولو استعمل عليكم عبد يقودكم بكتاب الله". قوله (كان رأسه زبيبة) واحدة الزبيب المأكول المعروف الكائن من العنب إذا جف، وإنما شبه رأس الحبشي بالزبيبة لتجمعها ولكون شعره أسود، وهو تمثيل في الحقارة وبشاعة الصورة وعدم الاعتداد بها، وقد تقدم شرح هذا الحديث مستوفى في " كتاب الصلاة " ونقل ابن بطال عن المهلب قال: قوله " اسمعوا وأطيعوا " لا يوجب أن يكون المستعمل للعبد إلا إمام قرشي، لما تقدم أن الإمامة لا تكون إلا في قريش، وأجمعت الأمة على أنها لا تكون في العبيد. قلت: ويحتمل أن يسمى عبدا باعتبار ما كان قبل العتق، وهذا كله إنما هو فيما يكون بطريق الاختيار، وأما لو تغلب عبد حقيقة بطريق الشوكة فإن طاعته تجب إخمادا للفتنة ما لم يأمر بمعصية كما تقدم تقريره، وقيل المراد أن الإمام الأعظم إذا استعمل العبد الحبشي على إمارة بلد مثلا وجبت طاعته، وليس فيه أن العبد الحبشي يكون هو الإمام الأعظم. وقال الخطابي: قد يضرب المثل بما لا يقع في الوجود، يعني وهذا من ذاك أطلق العبد الحبشي مبالغة في الأمر بالطاعة وإن كان لا يتصور شرعا أن يلي ذلك. الحديث: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ الْجَعْدِ عَنْ أَبِي رَجَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ يَرْوِيهِ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا فَكَرِهَهُ فَلْيَصْبِرْ فَإِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ يُفَارِقُ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا فَيَمُوتُ إِلَّا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً الشرح: قوله (حماد) هو ابن زيد، والجعد هو أبو عثمان، وأبو رجاء هو العطاردي، وتقدم الكلام على هذا السند في أوائل الفتن. قوله (يرويه) هو في معنى قوله عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم كذلك في أوائل الفتن من طريق عبد الوارث عن الجعد وتقدمت مباحثه هناك. الحديث: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ حَدَّثَنِي نَافِعٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ عَلَى الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِمَعْصِيَةٍ فَإِذَا أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلَا سَمْعَ وَلَا طَاعَةَ الشرح: قوله (عن عبيد الله) هو ابن عمر العمري، وعبد الله صحابيه هو ابن عمر. قوله (فيما أحب وكره) في رواية أبي ذر " فيما أحب أو كره". قوله (ما لم يؤمر بمعصية) هذا يقيد ما أطلق في الحديثين الماضيين من الأمر بالسمع والطاعة ولو لحبشي، ومن الصبر على ما يقع من الأمير مما يكره، والوعيد على مفارقة الجماعة. قوله (فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة) أي لا يجب ذلك بل يحرم على من كان قادرا على الامتناع، وفي حديث معاذ عند أحمد " لا طاعة لمن لم يطع الله " وعنده وعند البزار في حديث عمران بن حطين والحكم ابن عمرو الغفاري " لا طاعة في معصية الله " وسنده قوي، وفي حدث عبادة بن الصامت عند أحمد والطبراني " لا طاعة لمن عصى الله تعالى " وقد تقدم البحث في هذا الكلام على حديث عبادة في الأمر بالسمع والطاعة " إلا أن تروا كفرا بواحا " بما يغني عن إعادته وهو في " كتاب الفتن " وملخصه أنه ينعزل بالكفر إجماعا " فيجب على كل مسلم القيام في ذلك، فمن قوي على ذلك فله الثواب، ومن داهن فعليه الإثم، ومن عجز وجبت عليه الهجرة من تلك الأرض. الحدث الرابع. الحديث: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عُبَيْدَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيَّةً وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُطِيعُوهُ فَغَضِبَ عَلَيْهِمْ وَقَالَ أَلَيْسَ قَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُطِيعُونِي قَالُوا بَلَى قَالَ قَدْ عَزَمْتُ عَلَيْكُمْ لَمَا جَمَعْتُمْ حَطَبًا وَأَوْقَدْتُمْ نَارًا ثُمَّ دَخَلْتُمْ فِيهَا فَجَمَعُوا حَطَبًا فَأَوْقَدُوا نَارًا فَلَمَّا هَمُّوا بِالدُّخُولِ فَقَامَ يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّمَا تَبِعْنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِرَارًا مِنْ النَّارِ أَفَنَدْخُلُهَا فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ خَمَدَتْ النَّارُ وَسَكَنَ غَضَبُهُ فَذُكِرَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَوْ دَخَلُوهَا مَا خَرَجُوا مِنْهَا أَبَدًا إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ الشرح: قوله (عن أبي عبد الرحمن) هو السلمي، وعلي هو ابن أبي طالب. قوله (وأمر عليهم رجلا من الأنصار) تقدم البحث فيه والجواب عمن غلط راويه في " كتاب المغازي". قوله (فأوقدوا نارا) كذا وقع، وتقدم بيانه في المغازي والأحكام أن أميرهم غضب منهم فقال أوقدوا نارا، وقوله "قد عزمت عليكم لما " بالتخفيف وجاء بالتشديد والتثقيل إنها بمعنى " إلا " وقوله " خمدت " بالمعجمة وفتح الميم وضبط في بعض الروايات بكسر الميم لا يعرف في اللغة قاله ابن التين. قال: ومعنى خمدت سكن لهبها وإن لم يطفأ جمرها فإن طفئ قيل همدت. وقوله "لو دخلوها ما خرجوا منها " قال الداودي: يريد تلك النار لأنهم يموتون بتحريقها فلا يخرجون منها أحياء، قال: وليس المراد بالنار نار جهنم ولا أنهم مخلدون فيها لأنه قد ثبت في حديث الشفاعة " يخرج من النار من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان " قال: وهذا من المعاريض التي فيها مندوحة، يريد أنه سيق مساق الزجر والتخويف ليفهم السامع أن من فعل ذلك خلد في النار، وليس ذلك مرادا وإنما أريد به الزجر والتخويف، وقد تقدم له توجيهات في " كتاب المغازي " وكذا قوله " إنما الطاعة في المعروف " وتقدم شرحه مستوفى في " باب سرية عبد الله بن حذافة " من " كتاب المغازي " وتقدم شيء منه أيضا في تفسير سورة النساء في قوله *3* الشرح: قوله (باب من لم يسأل الإمارة أعانه الله عليها) ذكر فيه حديث عبد الرحمن بن سمرة " لا تسأل الإمارة " ثم قال بعده " باب من سأل الإمارة وكل إليها " وذكر الحديث المذكور، وقد تقدم الكلام على سنده في " كتاب كفارة الأيمان " حديث عبد الرحمن بن سمرة " لا تسأل الإمارة " ثم قال بعده " باب من سأل الإمارة وكل إليها " وذكر الحديث المذكور، وقد تقدم الكلام على سنده في " كتاب كفارة الأيمان " وعلى قوله (وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فكفر " وأما قوله " لا تسأل الإمارة " فهو الذي في أكثر طرق الحديث، ووقع في رواية يونس بن عبيد عن الحسن لفظ " لا يتمنين " بصيغة النهي عن التمني مؤكدا بالنون الثقيلة، والنهي عن التمني أبلغ من النهي عن الطلب. الحديث: حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ قَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ لَا تَسْأَلْ الْإِمَارَةَ فَإِنَّكَ إِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إِلَيْهَا وَإِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا وَإِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ وَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ الشرح: قوله (عن مسألة) أي سؤال. قوله (وكلت إليها) بضم الواو وكسر الكاف مخففا ومشددا وسكون اللام، ومعنى المخفف أي صرف إليها ومن وكل نفسه هلك، ومنه في الدعاء " ولا تكلني إلى نفسي " ووكل أمره إلى فلان صرفه إليه؛ ووكله بالتشديد استحفظه، ومعنى الحديث أن من طلب الإمارة فأعطيها تركت إعانته عليها من أجل حرصه، ويستفاد منه أن طلب ما يتعلق بالحكم مكروه فيدخل في الإمارة القضاء والحسبة ونحو ذلك وأن من حرص على ذلك لا يعان، ويعارضه في الظاهر ما أخرجه أبو داود عن أبي هريرة رفعه " من طلب قضاء المسلمين حتى يناله ثم غلب عدله جوره فله الجنة، ومن غلب جوره عدله فله النار " والجمع بينهما أنه لا يلزم من كونه لا يعان بسبب طلبه أن لا يحصل منه العدل إذا ولى " أو يحمل الطلب هنا على القصد وهناك على التولية " وقد تقدم من حديث أبي موسى " إنا لا نولي من حرص " ولذلك عبر في مقابله بالإعانة، فإن من لم يكن له من الله عون على عمله لا يكون فيه كفاية لذلك العمل فلا ينبغي أن يجاب سؤاله، ومن المعلوم أن ولاية لا تخلو من المشقة، فمن لم يكن له من الله إعانة تورط فيما دخل فيه وخسر دنياه وعقباه، فمن كان ذا عقل لم يتعرض للطلب أصلا، بل إذا كان كافيا وأعطيها من غير مسألة فقد وعده الصادق بالإعانة، ولا يخفي ما في ذلك من الفضل. قال المهلب: جاء تفسير الإعانة عليها في حديث بلال بن مرداس عن خيثمة عن أنس رفعه " من طلب القضاء واستعان عليه بالشفعاء وكل إلى نفسه، ومن أكره عليه أنزل الله عليه ملكا يسدده " أخرجه ابن المنذر. قلت: وكذا أخرجه الترمذي من طريق أبي عوانة عن عبد الأعلى الثعلبي، وأخرجه هو وأبو داود وابن ماجه من طريق أبي عوانة ومن طريق إسرائيل عن عبد الأعلى فأسقط خيثمة من السند، قال الترمذي. ورواية أبي عوانة أصح. وقال في رواية أبي عوانة حديث حسن غريب، وأخرجه الحاكم من طريق إسرائيل وصححه، وتعقب بأن ابن معين لين خيثمة وضعف عبد الأعلى، وكذا قال الجمهور في عبد الأعلى: ليس بقوي. قال المهلب: وفي معنى الإكراه عليه أن يدعي إليه فلا يرى نفسه أهلا لذلك هيبة له وخوفا من الوقوع في المحذور فإنه يعان عليه إذا دخل فيه، ويسدد؛ والأصل فيه أن من تواضع لله رفعه الله. وقال ابن التين: هو محمول على الغالب، وإلا فقد قال يوسف *3* الشرح: قوله (باب من لم يسأل الإمارة أعانه الله عليها) ذكر فيه حديث عبد الرحمن بن سمرة " لا تسأل الإمارة " ثم قال بعده " باب من سأل الإمارة وكل إليها " وذكر الحديث المذكور، وقد تقدم الكلام على سنده في " كتاب كفارة الأيمان " حديث عبد الرحمن بن سمرة " لا تسأل الإمارة " ثم قال بعده " باب من سأل الإمارة وكل إليها " وذكر الحديث المذكور، وقد تقدم الكلام على سنده في " كتاب كفارة الأيمان " وعلى قوله (وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فكفر " وأما قوله " لا تسأل الإمارة " فهو الذي في أكثر طرق الحديث، ووقع في رواية يونس بن عبيد عن الحسن لفظ " لا يتمنين " بصيغة النهي عن التمني مؤكدا بالنون الثقيلة، والنهي عن التمني أبلغ من النهي عن الطلب. الحديث: حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا يُونُسُ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَمُرَةَ قَالَ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ لَا تَسْأَلْ الْإِمَارَةَ فَإِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إِلَيْهَا وَإِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا وَإِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ الشرح: قوله (عن مسالة) أي سؤال. قوله (وكلت إليها) بضم الواو وكسر الكاف مخففا ومشددا وسكون اللام، ومعنى المخفف أي صرف إليها ومن وكل نفسه هلك، ومنه في الدعاء " ولا تكلني إلى نفسي " ووكل أمره إلى فلان صرفه إليه؛ ووكله بالتشديد استحفظه، ومعنى الحديث أن من طلب الإمارة فأعطيها تركت إعانته عليها من أجل حرصه، ويستفاد منه أن طلب ما يتعلق بالحكم مكروه فيدخل في الإمارة القضاء والحسبة ونحو ذلك وأن من حرص على ذلك لا يعان، ويعارضه في الظاهر ما أخرجه أبو داود عن أبي هريرة رفعه " من طلب قضاء المسلمين حتى يناله ثم غلب عدله جوره فله الجنة، ومن غلب جوره عدله فله النار " والجمع بينهما أنه لا يلزم من كونه لا يعان بسبب طلبه أن لا يحصل منه العدل إذا ولى " أو يحمل الطلب هنا على القصد وهناك على التولية " وقد تقدم من حديث أبي موسى " إنا لا نولي من حرص " ولذلك عبر في مقابله بالإعانة، فإن من لم يكن له من الله عون على عمله لا يكون فيه كفاية لذلك العمل فلا ينبغي أن يجاب سؤاله، ومن المعلوم أن ولاية لا تخلو من المشقة، فمن لم يكن له من الله إعانة تورط فيما دخل فيه وخسر دنياه وعقباه، فمن كان ذا عقل لم يتعرض للطلب أصلا، بل إذا كان كافيا وأعطيها من غير مسألة فقد وعده الصادق بالإعانة، ولا يخفي ما في ذلك من الفضل. قال المهلب: جاء تفسير الإعانة عليها في حديث بلال بن مرداس عن خيثمة عن أنس رفعه " من طلب القضاء واستعان عليه بالشفعاء وكل إلى نفسه، ومن أكره عليه أنزل الله عليه ملكا يسدده " أخرجه ابن المنذر. قلت: وكذا أخرجه الترمذي من طريق أبي عوانة عن عبد الأعلى الثعلبي، وأخرجه هو وأبو داود وابن ماجه من طريق أبي عوانة ومن طريق إسرائيل عن عبد الأعلى فأسقط خيثمة من السند، قال الترمذي. ورواية أبي عوانة أصح. وقال في رواية أبي عوانة حديث حسن غريب، وأخرجه الحاكم من طريق إسرائيل وصححه، وتعقب بأن ابن معين لين خيثمة وضعف عبد الأعلى، وكذا قال الجمهور في عبد الأعلى: ليس بقوي. قال المهلب: وفي معنى الإكراه عليه أن يدعي إليه فلا يرى نفسه أهلا لذلك هيبة له وخوفا من الوقوع في المحذور فإنه يعان عليه إذا دخل فيه، ويسدد؛ والأصل فيه أن من تواضع لله رفعه الله. وقال ابن التين: هو محمول على الغالب، وإلا فقد قال يوسف *3* الشرح: قوله (باب ما يكره من الحرص على الإمارة) أي على تحصيلها، ووجه الكراهة مأخوذ مما سبق في الباب الذي قبله. الحديث: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّكُمْ سَتَحْرِصُونَ عَلَى الْإِمَارَةِ وَسَتَكُونُ نَدَامَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَنِعْمَ الْمُرْضِعَةُ وَبِئْسَتْ الْفَاطِمَةُ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُمْرَانَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْحَكَمِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَوْلَهُ الشرح: قوله (عن سعيد المقبري عن أبي هريرة) هكذا رواه ابن أبي ذئب مرفوعا، وأدخل عبد الحميد ابن جعفر بين سعيد وأبي هريرة رجلا ولم يرفعه، وابن أبي ذئب أتقن من عبد الحميد وأعرف بحديث المقبري منه فروايته هي المعتمدة، وعقبه البخاري بطريق عبد الحميد إشارة منه إلى إمكان تصحيح القولين فلعله كان عند سعيد عن عمر بن الحكم عن أبي هريرة موقوفا على ما رواه عنه عبد الحميد؛ وكان عنده عن أبي هريرة بغير واسطة مرفوعا، إذ وجدت عند كل من الراويين عن سعيد زيادة؛ ورواية الوقف لا تعارض رواية الرفع لأن الراوي قد ينشط فيسند وقد لا ينشط فيقف. قوله (إنكم ستحرصون) بكسر الراء ويجوز فتحها، ووقع في رواية شبابة عن ابن أبي ذئب " ستعرضون " بالعين وأشار إلى أنها خطأ. قوله (على الإمارة) دخل فيه الإمارة العظمى وهي الخلافة، والصغرى وهي الولاية على بعض البلاد، وهذا إخبار منه صلى الله عليه وسلم بالشيء قبل وقوعه فوقع كما أخبر. قوله (وستكون ندامة. يوم القيامة) أي لمن لم يعمل فيها بما ينبغي، وزاد رواية شبابة " وحسرة " ويوضح ذلك ما أخرجه البزار والطبراني بسند صحيح عن عوف بن مالك بلفظ " أولها ملامة؛ وثانيها ندامة، وثالثها عذاب يوم القيامة، إلا من عدل " وفي الطبراني الأوسط من رواية شريك عن عبد الله ابن عيسى عن أبي صالح عن أبي هريرة قال شريك: لا أدري رفعه أم لا " قال " " الإمارة أولها ندامة، وأوسطها غرامة، وآخرها عذاب يوم القيامة " وله شاهد من حديث شداد بن أوس رفعه بلفظ " أولها ملامة وثانيها ندامة " أخرجه الطبراني وعند الطبراني من حديث زيد بن ثابت رفعه " نعم الشيء الإمارة لمن أخذها بحقها وحلها، وبئس الشيء الإمارة لمن أخذها بغير حقها تكون عليه حسرة يوم القيامة " وهذا يقيد ما أطلق في الذي قبله، ويقيده أيضا ما أخرج مسلم عن أبي ذر قال " قلت يا رسول الله ألا تستعملني؟ قال: إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها " قال النووي: هذا أصل عظيم في اجتناب الولاية ولا سيما لمن كان فيه ضعف. وهو في حق من دخل فيها بغير أهلية ولم يعدل فإنه يندم على ما فرط منه إذا جوزي بالخزي يوم القيامة، وأما من كان أهلا وعدل فيها فأجره عظيم كما تظاهرت به الأخبار، ولكن في الدخول فيها خطر عظيم، ولذلك امتنع الأكابر منها والله أعلم. قوله (فنعم المرضعة وبئست الفاطمة) قال الدوادي: نعم المرضعة أي الدنيا، وبئست الفاطمة أي بعد الموت، لأنه يصير إلى المحاسبة على ذلك، فهو كالذي يفطم قبل أن يستغنى فيكون في ذلك هلاكه. وقال غيره: نعم المرضعة لما فيها من حصول الجاه والمال ونفاذ الكلمة وتحصيل اللذات الحسية والوهمية حال حصولها، وبئست الفاطمة عند الانفصال عنها بموت أو غيره وما يترتب عليها التبعات في الآخرة. (تنبيه) : ألحقت التاء في " بئست " دون نعم، والحكم فيهما إذا كان فاعلهما مؤنثا جواز الإلحاق وتركه، فوقع التفنن في هذا الحديث بحسب ذلك " وقال الطيبي: إنما لم يلحقها بنعم لأن المرضعة مستعارة للإمارة وتأنيثها غير حقيقي فترك إلحاق التاء بها وإلحاقها بئس نظرا إلى كون الإمارة حينئذ داهية دهياء. قال: وإنما أتي بالتاء في الفاطمة والمرضعة إشارة إلى تصوير تينك الحالتين المتجددتين في الإرضاع والفطام. قوله (وقال محمد بن بشار) هو بندار، ووقع مستخرج أبي نعيم أن البخاري قال " حدثنا محمد ابن بشار " وعبد الله بن حمرن هو بصري صدوق وقد قال ابن حبان في الثقات: يخطئ وماله في الصحيح إلا هذا الموضع. وعبد الحميد بن جعفر هو المدني لم يخرج له البخاري إلا تعليقا، وعمر بن الحكم أي ابن ثوبان مدني ثقة أخرج له البخاري في غير هذا الموضع تعليقا، كما تقدم في الصيام. قوله (عن أبي هريرة) أي موقوفا عليه. الحديث: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدٍ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا وَرَجُلَانِ مِنْ قَوْمِي فَقَالَ أَحَدُ الرَّجُلَيْنِ أَمِّرْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَقَالَ الْآخَرُ مِثْلَهُ فَقَالَ إِنَّا لَا نُوَلِّي هَذَا مَنْ سَأَلَهُ وَلَا مَنْ حَرَصَ عَلَيْهِ الشرح: قوله في حديث أبي موسى (ولا من حرص عليه) بفتح المهملة والراء، وقد تقدم مطولا من وجه آخر عن أبي بردة عن أبي موسى في استتابة المرتدين وذكرت شرحه هناك. وفي الحديث أن الذي يناله المتولي عن النعماء والسراء دون ما يناله من البأساء والضراء، إما بالعزل في الدنيا فيصير خاملا وإما بالمؤاخذة في الآخرة وذلك أشد، نسأل الله العفو. قال القاضي البيضاوي: فلا ينبغي لعاقل أن يفرح بلذة يعقبها حسرات، قال المهلب: الحرص على الولاية هو السبب في اقتتال الناس عليها حتى سفكت الدماء واستبيحت الأموال والفروج وعظم الفساد في الأرض بذلك ووجه الندم أنه قد يقتل أو يعزل أو يموت فيندم على الدخول فيها لأنه يطالب بالتبعات التي ارتكبها وقد فاته ما حرص عليه بمفارقته، قال: ويستثنى من ذلك من تعين عليه كأن يموت الوالي ولا يوجد بعده من يقوم بالأمر غيره، وإذا لم يدخل في ذلك يحصل الفساد بضياع الأحوال. قلت: وهذا لا يخالف ما فرض في الحديث الذي قبله من الحصول بالطلب أو بغير طلب بل في التعبير بالحرص إشارة إلى أن من قام بالأمر عند خشية الضياع يكون كمن أعطى بغير سؤال لفقد الحرص غالبا عمن هذا شأنه. وقد يغتفر الحرص في حق من تعين عليه لكونه يصير واجبا عليه، وتولية القضاء على الإمام فرض عين وعلى القاضي فرض كفاية إذا كان هناك غيره.
|